سورة يس - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يس)


        


{يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يس} اختلف في تأويلها، فقيل فيها كل ما قيل في الحروف التي بدئت بها بعض سور القرآن.. وقيل إنها اسم للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم.. ولا نقول إلا أنها من المتشابه، الذي لا يعلم تأويله إلا اللّه والراسخون في العلم!.
قوله تعالى: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
هو قسم بالقرآن الحكيم، وفى هذا القسم تشريف لمقامه، وتأكيد وتنويه بمنزلته.. وكيف لا يكون في قمة التشريف والتكريم، وهو آيات اللّه، وكلمات اللّه؟
وفى وصف القرآن بالحكمة هنا، إلفات لما اشتمل عليه من فرائد الحكمة، التي هى مورد العقول، ومطلب الحكماء.. وأن الذي ينظر في آيات اللّه ينبغى أن ينظر فيها بعقل متفتح، وبصيرة متطلعة، وقلب مشوق، حتى يظفر ببعض ما يتحدث به هذا القرآن الحكيم، فإنه لا ينتفع بحكمة الحكيم، إلا من كان ذا حكمة وبصيرة.
وقوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} خطاب للنبىّ، وتوكيد للصفة التي له عند اللّه. وأنه من المرسلين، الذين اصطفاهم اللّه لرسالته إلى عباده.
وقوله تعالى: {عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
هو خبرثان، عن النبىّ، وأنه قائم على صراط مستقيم، من اتبعه فقد اهتدى، ومن اتخذ سبيلا غير سبيله فقد ضلّ وهلك.
قوله تعالى: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} {تنزيل} منصوب على المصدر، أي إنك لمن المرسلين.. وإنك على صراط مستقيم، نزّل {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}.
ويكون المراد بالصراط المستقيم هنا هو القرآن الكريم، كما يقول اللّه تعالى: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [153: الأنعام] ويكون قوله تعالى: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} جملة وقعت صفة.
قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ}.
أي إنك من المرسلين، وإنك على صراط مستقيم بهذا الكتاب المنزل من العزيز الرحيم: {لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ}.
فهذا الحشد العظيم من الصفات العظيمة للنبىّ، هو وإن كانت تكريما للنبىّ، وامتنانا عليه بإحسان ربّه إليه- هو أيضا تكريم لهؤلاء الجاهليين، وامتنان بفضل اللّه عليهم، إذ بعث فيهم خير رسله، وخاتم أنبيائه، ومجتمع كتبه.. وفى هذا حثّ لهم على أن يقبلوا على هذا الخير الكثير المرسل إليهم، وأن يأخذوا حظهم منه.
وفى قوله تعالى: {ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ}.
إشارة إلى أنهم لم يبعث فيهم رسول قبله.. أما رسالة إسماعيل عليه السلام، فهى رسالة كانت مقصورة على أهله، كما يقول تعالى: {وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ} [55: مريم] وإذا كان لهذه الرسالة أثر، فقد اندثر، وعفّى عليه الزمن وسط ظلام الجاهلية وضلالها.
وفى قوله تعالى: {فَهُمْ غافِلُونَ}.
إشارة أخرى إلى ما كان عليه القوم من جهل وغفلة، فكانوا بهذا في أشد الحاجة إلى من يعالج هذا الداء المتمكن فيهم.
قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} هذا حكم قاطع على هؤلاء المشركين، وهم في لقاءاتهم الأولى مع الدعوة.
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ} والقول الذي حق على أكثرهم هو الحكم الذي قضى اللّه سبحانه وتعالى به في سابق علمه، على الكثرة من هؤلاء المشركين، من أنهم لا يؤمنون، ولا ينزعون عنهم الشرك الذي لبسوه.. {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} لسابق قضاء اللّه فيهم..
وقد صدق ما أخبر به القرآن، ووقع كما أخبر به.. فإن أكثر هؤلاء المشركين الذين شهدوا مطالع الدعوة الإسلامية، لم يدخلوا في الإسلام، فإنه خلال ثلاث وعشرين سنة- وهى مدة الرسالة الإسلامية- مات كثير من هؤلاء المشركين على شركه، ومن لم يمت منهم على فراش الموت مات قتيلا في ميدان القتال مع المسلمين.. ومن امتدّ به الأجل وأدرك الفتح، ودخل في دين اللّه مع الداخلين- ظل ممسكا بشركه في صدره، حتى مات عليه، أو مات في حروب الردّة مع المرتدّين.
أما لما ذا حقّ القول عليهم؟ فهذا سؤال لا يسأله مؤمن باللّه.. إنه اعتراض على مشيئة الخالق فيما خلق! {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.. تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} [54: الأعراف].
قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} هو بيان للأسباب التي أقامها اللّه سبحانه، لتصرف في هؤلاء المشركين عن الحق، وتمسك بهم على الشرك والضلال.
لقد جعل اللّه {فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا} أي أطواقا من حديد، أشبه بالقلادة، تطوق بها أعناقهم.
{فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ} أي وهذه الأغلال أو القلائد تشتمل على العنق كله، حتى لتصل إلى الأذقان.
{فَهُمْ مُقْمَحُونَ} أي مشدود والرءوس إلى أعلى.. فهم لا يستطيعون أن يحركوا رءوسهم يمينا أو شمالا، أو إلى تحت أو فوق.
والصورة التي تبدو ممن طوّق بهذا الطوق، أنه تمثال جامد، وأنه لا يستطيع أن يرى غير الطريق القائم بين يديه، أما ما حوله، عن يمين وشمال، فلا يرى منه شيئا والطريق الذي بين يدى هؤلاء المشركين الذين حق عليهم القول، هو طريق الضلال.. وإذن فلا طريق لهم غيره.
والأغلال التي جعلها اللّه في أعناق هؤلاء المشركين، هى أغلال معنوية.
فإن الذي ينظر إليهم، وهم ماضون على طريق الشرك، لا يلتفتون إلى هذا النور الذي عن يمينهم وعن شمالهم، ومن أمامهم ومن خلفهم- يخيّل إليه أن في أعناق القوم أطواقا من حديد، قد شلت حركة رءوسهم، فلم يقدروا على إلفاتها يمينا أو شمالا.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} هو من تمام الصورة التي جعل اللّه المشركين عليها، حتى لا يهتدوا حين جاءهم الهدى، لما سبق من قضاء اللّه فيهم فهم- بالأغلال التي في أعناقهم- مقمحون، قد دفعت رءوسهم إلى أعلى، بحكم المخنقة التي في أعناقهم.. وهم في هذا الوضع لا يستطيعون التفاتا يمينا أو شمالا، ولكنهم مع ذلك يستطيعون أن يروا ما أمامهم، وأن يستدبروا ليروا ما خلفهم.
وفى قوله تعالى: {وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} هو سدّ لهذين المنفذين اللذين يمكنانهما من الرؤية من أمام ومن خلف.. وأما وقد جعل اللّه- سبحانه- سدّا من بين أيديهم أي من أمامهم، وسدّا من خلفهم، فقد أحكم سد المنافذ عليهم من جميع الجهات، وأصبحوا وقد أغلقت عليهم منافذ النظر إلى العالم الخارجي، وصاروا محصورين في عالمهم الذي لا شيء فيه غير الضلال والظلام.. فيمينهم وشمالهم مغلق عليهم أبدا بحكم هذا الطوق الذي طوقوا به.. وأمامهم وخلفهم.. مسدودان.. فإذا أداروا وجوههم إلى أي اتجاه، لم يتغير حالهم، ولم يرتفع عنهم سد من هذه السدود المضروبة عليهم، حيث يلازمهم هذان السدان المضروبان عليهم من أمام ومن خلف.. فعلى أي اتجاه يكونون، يكون السدان من خلفهم ومن أمامهم.. أما عن أيمانهم وعن شمائلهم، فالطوق قائم بوظيفته فيهم في كل حال.
وهذه الصورة إعجاز من إعجاز القرآن، في تجسيد المعاني، وفى بعث الحياة، والحركة في الجمادات والساكنات.. حيث نرى الكافر هنا وقد أدخل في سجن محكم، مطبق عليه، لا يرى منه النور أبدا.
وفى قوله تعالى: {فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} إشارة إلى ما يقع لهؤلاء المشركين من هذه الآيات التي سلطها اللّه عليهم، من الأغلال والسدود، فلقد أقامت هذه الآفات غشاوة على عيونهم، فهم لا يبصرون.. وكيف يبصر من عاش في هذه الحدود التي لا تتجاوز محيط جسده؟ وما ذا يبصر لو كان له أن يبصر؟.
قوله تعالى: {وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وهذا ما يقضى به الوضع الذي عليه هؤلاء المشركون.. إنهم لن يتحولوا عن حالهم التي هم فيها، فلقد جمدوا على حالتهم تلك، كما تحنط الموتى في توابيتها {وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [101 يونس].. وإذا فلا يقف النبي كثيرا عن هؤلاء المشركين الذين وقفوا من الدعوة هذا الموقف المحادّ لها، المتربص بها.
قوله تعالى: {إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} أي إنما تنفع النذر، والعظات، من استمع إلى آيات اللّه، فاتبعها، وآمن بها، وخاف ربه، وعمل ليوم القيامة، مصدّقا بما وعد به، وإن لم يره.
وعلى هذا، فليوجه النبي وجهه كله إلى المؤمنين، وليعطهم جهده كله، ففى هذا الميدان يثمر عمله، ويقع موقعه من أهله.
وفى قصر الإنذار على من اتبع الذكر وخشى الرحمن بالغيب- في هذا إشارة إلى الاستعداد الفطري للإيمان عند هؤلاء المنذرين، وأنهم بفطرتهم السليمة كانوا والإيمان الذي يدعون إليه على موعد، بل إنهم في انتظار له، وشوق إليه، قبل أن يطلع عليهم.
وفى جعل الخشية، للرحمن، إشارة إلى أنها خشية إجلال وتعظيم،.. خشية حب وتوقير، لا خشية جبروت وقهر.. إنها خشية الرحمن الذي وسعت رحمته كل شىء.
وقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ}.
هو ما يلقى به النبي هؤلاء المؤمنين الذين استجابوا له بمجرد أن دعاهم إلى اللّه.
قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ} هو عرض لبعض مظاهر قدرة اللّه، وهى من الغيب الذي آمن به المؤمنون، والذي كان مضلّة للمشركين، وهو الحياة بعد الموت.
والحساب والجزاء.
وفى هذا التقرير يتأكد للمؤمنين إيمانهم بهذا الغيب، وتزداد خشيتهم للّه.
وقوله تعالى: {وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا} أي نحصى على الموتى ما قدموا بين أيديهم من أعمال لهذا اليوم، من حسن أو سيىء، ونسجلها في كتاب لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها.
وقوله تعالى {وَآثارَهُمْ} معطوف على {ما} الموصولة، وهى مفعول به لنكتب- أي نكتب ما قدموا ونكتب آثارهم، أي ما خلفوه وراءهم من آثار صالحة أو فاسدة.
والآثار هنا، هى ما يبقى للأموات في الحياة بعد موتهم من آثار في الناس، فتكون منارات هدى، أو سبل ضلال.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: «ومن سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».
والإمام المبين، هو اللوح المحفوظ، وهو أم الكتاب.


{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)}.
التفسير:
مناسبة ضرب هذا المثل هنا، هو أن الآيات السابقة كشفت عن الطبيعة الإنسانية، وأن الناس على طبيعتين: أصحاب طبيعة متأبيّة على الخير، مغلقة الحواسّ عنه، لا يستجيبون له مهما جىء إليهم به من شتى الوسائل.. وأصحاب طبيعة أخرى مهيأة للإيمان، مستعدة له، متشوفة إليه، لا تكاد تهبّ عليهم نسمة من أنسامه العطرة، حتى يتنفسوا أنفاسه، ويملئوا صدورهم به.
وفى هذا المثل، عرض للناس في طبيعتيهم هاتين معا.
قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ}.
القرية.. والمرسلون إليها:
المفسّرون على إجماع بأن هذه القرية، هى أنطاكية.
وعلى إجماع كذلك بأن هؤلاء الرسل، هم من حواريى المسيح، ورسله الذين بعثهم لينشروا الدعوة في الناس.
وهذا التأويل للقرية وللرسل، لا يقوم له شاهد من القرآن الكريم، ولا تدل عليه إشارة من إشاراته القريبة أو البعيدة.. وإنما هو من واردات أهل الكتاب، وأخبارهم. والخبر هنا وارد من المسيحية، وينسب إلى وهب ابن منبّه، الذي تلقاه من المسيحية، مما يعرف عند المسيحيين بأعمال الرسل، الملحقة بالأناجيل.
فهذا التأويل- في نظرنا- لا يعوّل عليه، ما دام غير مستند إلى دليل من القرآن الكريم ذاته.. فالقرآن الكريم- في رأينا- يفسر بعضه بعضا، وهو كما وصفه الحق سبحانه وتعالى في قوله: {وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [89: النحل] فكيف لا يكون تبيانا لما فيه؟.
وندع القرية واسمها، والرسل والصفة التي لهم- ندع هذا الآن، ونعرض المثل على أن القرية واحدة من القرى المبثوثة في هذه الدنيا، وأن الرسل، هم بعض رسل اللّه إلى عباده.
فهذه قرية، قد جاءها رسل، مبعوثون من عند اللّه، وقد دعوا أصحابها إلى الإيمان، فلم يلقوا منهم إلّا الصد اللئيم، والقول القبيح.
أرسل اللّه سبحانه إليهم رسولين معا.. فكذبوهما.. {إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ} أي أمدهما اللّه برسول ثالث، يقوّيهما، ويشد أزرهما.. فلم يزدهم ذلك إلا عنادا، وإصرارا على الكفر والضلال: {إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ.. إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ}.
ولم يكن للرسل بين يدى هذا القول المنكر، إلا أن يقولوا ما حكاه القرآن عنهم: {قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}.
ويجىء ردّ القوم على الرسل، زاجرا مهددا:
{قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ}.
ويلقى الرسل هذا الرد الفاجر، بملاطفة، ووداعة:
{قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ..!} أي شؤمكم معكم، ومستقرّ في كيانكم الفاسد، الذي يمسك عليكم هذا الداء الذي أنتم فيه.. وليس هو شؤما واردا عليكم من خارج، فإن ما معكم من الشؤم لا يحتاج إلى مزيد.
{أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ؟} ألأن ذكرتم بما أنتم فيه من غفلة، وما أنتم عليه من ضلال، ترموننا بهذا الاتهام الكاذب الفاجر؟.
{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} أي متجاوزون الحد في الضلال.
وينتهى موقف الرسل مع أصحاب القرية إلى هذا الطريق المسدود.
ثم لا يلبث أن يجىء صوت العقل، من واحد من أهل القرية، فيكسر هذا الحائط، ويدخل على القوم منه، ويأخذ موقفه مع الرسل، داعيا إلى اللّه.
{وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.
فأى دعوة أولى من هذه الدعوة، بالقبول لها، والاحتفاء بأهلها؟ إنها دعوة من أهل الهدى، الذين لا يسألون أجرا على هذا الهدى الذي، يقدمونه ويدعون إليه.
فلم التمنّع والإعراض عن خير يبذل بلا ثمن؟ ذلك لا يكون إلا عن سفه وجهل معا.
ثم يعرض هذا الوافد الجديد، نفسه عليهم، في الزىّ الجديد الذي تزيّا، والخير الموفور الذي بين يديه من تلك الدعوة.
{وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ؟ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
أسئلة إنكارية، ينكر بها الرجل على نفسه ألا يكون في العابدين للّه، الذي فطره، والذي إليه موعده ولقاؤه مع الناس، يوم الحشر، إنه لا بد أن يكون له إله يعبده.. أفيترك عبادة من خلقه ورزقه، والذي يميته ثم يحييه.
ويعبد آلهة من دون اللّه، إن يرده اللّه بضر لا تغنى عنه هذه الآلهة شيئا، ولا تمد يدها لإنقاذه مما يريده اللّه به من ضر؟ {إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}!! وأي ضلال بعد هذا الضلال، الذي يدع فيه الإنسان حبل النجاة الممدود إليه، ثم يتعلق بأمواج البحر الصاخبة، وتيارانه المتدافعة؟.
{إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}.
وهكذا يقولها صريحة مدويّة في وجه القوم.. إنها هى كلمة النجاة، وحسبه أن يمسك بها، وليكن ما يكون..!
وألا فليسمعوها عالية مدوية متحدية.. إنها كلمة الحق التي يجب أن ترتفع فوق كل كلمة، وتعلو على كل نداء.
{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} هذا هو الجواب الذي تلقاه الرجل المؤمن، ردّا على إقراره بالإيمان بربه.. وهو الجزاء الذي يلقاه كل مؤمن صادق الإيمان.
والقول الذي قيل لهذا المؤمن، إما أن يكون في الحياة الدنيا، بوحي من اللّه سبحانه وتعالى، وإما أن يكون ذلك بعد الموت، حيث يعلم المرء مكانه من الجنة أو النار فيقال له يومئذ: {ادخل الجنة} فهى الدار التي أعدّها اللّه لك.
{قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}!
إنه يتمنّى لقومه أن ينالوا هذا الخير الذي ناله، بإيمانه بربه، وأن يعلموا ما أعد اللّه للمؤمنين من مغفرة وإكرام.. وأنّى لهم أن يعلموا هذا الغيب؟
وأنّى لهم أن يؤمنوا به، وقد أنكروا ما لمسوه بحواسهم، وكذبوا ما رأوه بأعينهم؟.
هذا هو المثل، وتلك هى مواقف الشخصيات والأحداث فيه.
وعلى ضوء هذا المثل يرى المشركون الضالون، إلى أين يسير بهم كفرهم وضلالهم، وإلى أين ينتهى الإيمان بالمؤمنين الذين استجابوا لرسول اللّه، واستقاموا على الطريق الذي يدعوهم إليه!.
والصورة التي يصورها المثل واضحة مشرقة، لا ينقصها أن يفتقد اسم القرية فيها، ولا أن تغيب أسماء الرسل ومشخصاتهم.. إنها مستغنية عن كل هذا.
وإذا كان لا بد من التطلع إلى ما وراء هذه الصورة، والنظر إلى موقع القرية من هذا العالم، وإلى أشخاص الرسل من بين رسل اللّه- إذا كان لا بد من ذلك، فليكن النظر مقصورا على كتاب اللّه، وليكن التطلع محجوزا في هذه الحدود.. لا يتجاوزها.
وننظر في القرآن الكريم فنرى:
أولا: أن القرآن الكريم، لم يتحدث عن رسولين حملا رسالة واحدة، إلى جهة واحدة، غير موسى وهرون.
وثانيا: أن هذين الرسولين الكريمين، قد حملا رسالتهما إلى فرعون.
وثالثا: أنه قد قام من قوم فرعون رجل مؤمن، خرج على سلطان فرعون، وعلى ما كان عليه قومه من متابعة فرعون في كفره وضلاله.
ورابعا: أن القرآن الكريم، يعقد الصلة في أكثر من موضع منه، بين فرعون، وبين هؤلاء المشركين من قريش.
فإذا نظرنا إلى المثل على ضوء هذه الإشارات المضيئة من القرآن الكريم، نجد:
أولا: أن قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما} يقبل التأويل، على أن الرسولين، هما موسى، وهرون، كما يقول تعالى: {اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى} [43: طه].
وثانيا: أن قوله تعالى: {فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ} يقابله في قصة موسى وهرون مع فرعون، حديث عظيم في القرآن العظيم، عن رجل لم يكشف القرآن عن اسمه، وإنما أشار إلى أنه من آل فرعون.. أي خاصته، وذوى قرابته.
فهو إنسان ذو شأن في المجتمع الفرعوني.. ومع هذا لم يكشف القرآن عن اسمه.. إذ ما جدوى الاسم، في مقام الوزن للقيم الإنسانية في الناس؟ إن المعتبر هنا هو الصفة لا الموصوف، وذات المسمّى لا الاسم.
يقول القرآن الكريم، عن هذا الرجل المؤمن: {وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ...} [28- 34: المؤمن].
ثم تمضى الآيات، فتذكر دعوة هذا الداعي إلى اللّه.. فيقول سبحانه:
{وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ} [38- 45: المؤمن].
هذه دعوة رجل صاحب رسالة.. إنها إن لم تكن على يد رسول، فهى رسالة رسول، وحقّ لصاحبها أن يدخل في زمرة الرسل.. وهذا هو السر في التعبير القرآنى: {فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ} أي فعززنا الرسولين بثالث، وهذا يمكن أن يحمل- وهو في إطلاقه كهذا- على محملين، فيقدّر برسول ثالث، أو معين ثالث، بعد المعين الثاني، الذي كان معينا للرسول الأول، فهو تعزيز بعد تعزيز.. ولقد عزّز موسى بهارون، وكان هذا الرجل المؤمن تعزيزا لهما.
بقيت مسألة تحتاج إلى نظر.. وهى أن المثل ذكر مع الرسل الثلاثة، رجلا، كانت له دعوة إلى اللّه كدعوة هؤلاء الرسل، وأنه جاء من أقصى المدينة، وهى القرية التي جاء ذكرها في أول المثل.. وهذا الرجل يكاد يكون صورة مطابقة لمؤمن آل فرعون، الذي قلنا عنه إنه رسول، أو حوارىّ رسول. فمن هو هذا الرجل؟ وهل له مكان في قصة موسى مع فرعون؟.
ونعم، فإننا نجد في قصة موسى مع فرعون، رجلا آخر، جاء من أقصى المدينة، يسعى.. ولكنه في هذه القصة لم يكشف عن دعوة له إلى اللّه، وإنما جاء ناصحا لموسى، هاتفا به أن يخرج من المدينة، فإن الملأ يأتمرون به ليقتلوه، كما يقول تعالى في سورة القصص: {وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} (آية 20).
ولم تكن للرجل دعوة إلى اللّه هنا، لأن موسى لم يكن قد أرسل بعد.
وربما كان الرجل مؤمنا باللّه، يدين بالتوحيد عن طريق اليهودية، أو عن طريق النظر الحرّ.. وعلى أىّ فهو على غير دين فرعون.. وقد ظل الرجل على إيمانه إلى أن بعث اللّه موسى رسولا، فلما جاء موسى يدعو فرعون إلى اللّه، وعرض بين يديه تلك المعجزات، ازداد الرجل إيمانا، فأصبح داعية إلى اللّه، يدعو قومه إلى الإيمان باللّه.
وعلى هذا، فإننا نجد في القصة والمثل رجلين:
أحدهما، وهو المؤمن الذي من آل فرعون. والذي وقف مع موسى وهرون موقف الداعية إلى اللّه، وأنه كان على إيمان باللّه، ولكنه كان يكتم إيمانه خوفا من فرعون، فلما رأى أن فرعون يدبّر لقتل موسى، فزع لهذا الأمر، وأعلن إيمانه، ووقف مع موسى وهرون، يحاجّ فرعون، ويجادله، إذ كان- مع إيمانه- ذا جاء وسلطان.. إنه من آل فرعون!.
أما الرجل الآخر، فهو الذي جاء إلى موسى، قبل الرسالة، وحذّره مما يدبر له القوم، ونصح له بالفرار من المدينة.
وبهذا نرى أن أحد الرجلين، خلّص موسى من القتل بعد الرسالة، على حين أن الآخر قد خلّصه من القتل أيضا، ولكن قبل الرسالة.
ومسألة أخرى، تحتاج إلى نظر أيضا.
إذا كان هذان الرجلان هما المشار إليهما في المثل المضروب، في سورة يس باعتبار أن الرجل الذي من آل فرعون هو الرسول، أو حوارىّ الرسول، وأن الآخر هو الذي جاء من أقصى المدينة، وقال: يا قوم {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ الآيات} إذ كان ذلك كذلك، فلم نوه القرآن الكريم في المثل المضروب بالرجل الآخر، ولم يذكر شيئا عن موقف الرجل الأول، الذي هو من آل فرعون، والذي قلنا إنه هو الذي عزّز به الرسولان الكريمان؟:
والجواب على هذا- واللّه أعلم- من وجهين:
فأولا: أنه بحسب مؤمن آل فرعون تنويها، أن يضاف إلى الرسولين الكريمين، وأن يكون له المكان الثالث معهما.. فقد رفع إلى درجة رسول.
وثانيا: وبحسبه شرفا وتكريما أن تسمى في القرآن سورة باسمه، هى سورة المؤمن والتي تسمى غافر أيضا.. وقد ذكرت في هذه السورة رسالته كلها، والتي قلنا عنها إنها رسالة رسول..!
هذا، واللّه أعلم.


{وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44)}.
التفسير:
ينتهى المثل الذي ضربه اللّه سبحانه وتعالى لأصحاب القرية في الآية السابقة على هذه الآيات- ينتهى بهذا التعقيب الذي بدأت به الآيات التي نحن بين يديها الآن، ومن هذا التعقيب يكون المنطلق الذي تنطلق فيه الآيات بعد هذا، فتواجه المشركين الذين استمعوا إلى هذا المثل، وتعرض عليهم مشاهد من قدرة اللّه سبحانه وتعالى، ومن آثار رحمته في خلقه، لعلهم يجدون في هذه المشاهد، ما يفتح قلوبهم وعقولهم إلى اللّه، حتى يؤمنوا، ويلحقوا بركب المؤمنين، قبل أن تفلت من أيديهم تلك الفرصة السانحة، ثم لا يكون منهم إلا الحسرة والندم، ولات ساعة مندم.
قوله تعالى: {وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ}.
هو تعقيب على قوله تعالى على لسان العبد المؤمن: {يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}.
إنهم لن يعلموا شيئا، ولو علموا ما آمنوا.. إنهم لا يؤمنون إلا إذا نزل عليهم ملائكة من السماء، بعد أن رفضوا الرسل، لأنهم بشر، وقالوا {ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ}.
واللّه سبحانه لم يرسل إلى قوم ملائكة حتى تتحقق أمنيتهم فيهم، وما كان اللّه مرسلا ملائكة إلى هؤلاء المشركين، الذين كانوا يقولون: {لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا؟} [21: الفرقان] ويقولون: {ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ؟ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [7: الفرقان].
وإذن فليمت هؤلاء المشركون على شركهم، كما مات فرعون وقومه من قبلهم على كفرهم.
وهذا ما يشهر إليه قوله تعالى في الآية التالية:
{إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ}.
إنها صيحة الموت، التي يقضى بها على النّاس، مؤمنهم، وكافرهم.
قوله تعالى: {يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}.
يمكن أن يكون هذا نداء من الحق سبحانه وتعالى للحسرة، لتقع على الكافرين المكذبين برسل اللّه، وأن تشتمل عليهم، ليذوقوا عذاب الندم، إلى جانب العذاب الجهنمى، نعوذ باللّه منهما.. وهذا ما يشير إليه سبحانه في قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [156: آل عمران].
ويمكن أن يكون ذلك نداء تعجبيّا من الوجود كلّه، لهذه الحسرة التي تقع على الناس، استفظاعا لها، وإشفاقا منها أن تمتد ظلاله الكئيبة إلى كل موجود.
وقوله تعالى: {ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} هو على التقدير الأول، تعليل للحسرة التي ساقها اللّه إلى المكذبين والضالين.. وهو على التقدير الثاني، جواب لسؤال ينطق به لسان الحال، وهو: أية جناية جناها الناس حتى يساق إليهم هذا البلاء العظيم؟ فكان الجواب: {ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}.
وفى وصف الناس بأنهم عباد، إشارة إلى أنهم- وهم عباد- لم يرعوا حق العبودية للّه، بل كفروا باللّه، وكذبوا رسله، واستهزءوا بهم.
والمراد بالعباد، هم الناس جميعا على اختلاف أوطانهم، وأزمانهم.
إنهم هكذا دأبهم وقليل منهم من يؤمن باللّه، ويصدّق رسله.. أما الكثرة منهم، فهم على هذا الوصف!.
قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ}.
الخطاب هنا للمشركين. وهو تقرير لتلك الحقيقة التي يشهدونها عيانا، وهى أن الهالكين قبلهم من الأمم السابقة، كثيرون، وقد ذهبوا وذهبت آثارهم، وأنهم لن يرجعوا مرة أخرى إلى هذه الدنيا.. فلم يشتدّ حرص هؤلاء المشركين على دنياهم تلك، التي كل ما فيها باطل وقبض الريح؟ ألا يفكرون في حياة أخرى وراء هذه الحياة، أبقى، وأعظم؟.
قوله تعالى: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ}.
{إن} هنا نافية بمعنى {ما} و{لما} بمعنى إلّا، أي ما كلّ إلا جميع محضرون لدنيا.. وهذا مثل قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ}.
والمعنى، أنه إذا كانت القرون الكثيرة التي هلكت لم ترجع إلى الدنيا مرة أخرى. فإن لها رجعة إلى اللّه.. وحضورا بين يديه.. فكل من هلك من الناس راجع إلى اللّه، للمساءلة، والجزاء.
وفى قوله تعالى: {مُحْضَرُونَ} إشارة إلى أن هناك قوة تستدعيهم للحضور بين يدى اللّه، وأن ذلك ليس عن اختيار منهم، ولو كان ذلك كذلك لكان للكافرين وأهل الضلال مهرب إلى عالم الفناء الأبدى، حيث يذهبون ولا يعودون، كى يفلتوا من العذاب الأليم.
وإذا كان الحديث هنا عن المجرمين، فقد كان قوله: {مُحْضَرُونَ} مناسبا لحالهم، التي هم فيها، والتي يمنون النفس بأن لارجعة إلى حياة بعد الموت، كما يقولون: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [29. الأنعام].
أما إذا كان الحديث عامّا إلى الناس جميعا، مؤمنين وكافرين، فأكثر ما يجىء الحديث عن البعث بالرجعة إلى اللّه، كما يقول سبحانه: {إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى} [8: العلق].
وكما يقول سبحانه: {كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ} [93: الأنبياء].. والرجوع هنا، هو عودة إلى المبدأ الذي بدأت منه رحلة الحياة.. حيث كانت الحياة من عند اللّه، ثم رجعت إليه.
قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}.
وهذا شاهد يشهد للمكذبين بالبعث، بأنه أمر ممكن، وإن إنكارهم له يقوم على فهم خاطئ لقدرة اللّه.. فلو أنهم نظروا إلى هذه الأرض الميتة، وكيف يحيى اللّه مواتها، ويبعث فيها الحياة، ويخرج من أحشائها صورا لا حصر لها من الكائنات الحية- لو نظروا إلى هذا لرأوا أن بعث الأجساد الهامدة لا يختلف في شىء، عن بعث الحياة في الأرض الجديب.
وقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ} مبتدأ وخبر، وقدم الخبر {آية} على المبتدأ {الأرض} للإلفات إليه، لأنه الآية المراد النظر في وجهها، وأصل النظم:
{والأرض الميتة آية لهم} وقوله تعالى: {أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} هو بدل من الأرض الميتة.. وهو بيان لها، يكشف عما في كيان هذه الآية التي تخرج من الأرض.. والحبّ، هو ما يخرج من نبات البرّ، والشعير والأرز، ونحوها.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ} خصت جنات النخيل والأعناب من بين أنواع الفاكهة بالذكر، لأن هاتين الشجرتين- النخلة، والكرمة- غاية ما يبلغه النبات من كمال في سلّم الترقّي.
فهما على قمة العالم النباتي، وما تحتهما تبع لهما.. وإلى هذا يشير الحديث الشريف: «أكرموا عماتكم النخل، فإنهن خلقن من طينة آدم» وهذا يعنى أن النخل قد أشرف من قمة عالم النبات على عالم الحيوان، وكاد يلامس هذا العالم، ويحسب من أفراده.. وقدم النخيل على الأعناب، لأنه أرقى درجة منه.
قوله تعالى: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ} يمكن أن تكون اللام في قوله تعالى: {لِيَأْكُلُوا} للتعليل، أي أحيينا الأرض، وأنبتنا فيها جنات من نخيل وأعناب، ليكون ذلك نعمة من نعمنا عليهم، لحفظ حياتهم، بالأكل من ثمرات هذه الجنات.
ويمكن أن تكون اللام للأمر، وفى هذا الأمر دعوة لهم إلى الأكل من تلك المائدة التي مدها اللّه للعباد، وجعل عليها ما تشتهى الأنفس من طيبات- وفى هذا الأمر إلفات لهم إلى هذا الإحسان، وذلك الفضل من اللّه، وإلى ما ينبغى للّه من شكر وحمد، وهذا مثل قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى} [53- 54: طه] والضمير في ثمره، يعود إلى النخيل، لأنه المقدم رتبة على العنب، وهو أكثر أنواعا وألوانا منه، فلا يعدو أن يكون العنب لونا من ألوان الثمر- وقوله تعالى: {وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} يمكن أن تكون الجملة معطوفة على قوله تعالى: {مِنْ ثَمَرِهِ} أي ليأكلوا من ثمره من غير صنعة، وليأكلوا ما عملته أيديهم من هذا الثمر، وصنعته.
ويمكن أن تكون الجملة حالية، والواو واو الحال، وما نافية.. ويكون المعنى، ليأكلوا من ثمر هذا الشجر، والحال أنه لم تعمله أيديهم، ولم يكن في قدرتهم أن يخرجوا شجرة منه، أو أن يصنعوا ثمرة من هذا الشجر.
وقوله تعالى: {أَفَلا يَشْكُرُونَ} حثّ لهم على الشكر، وإنكار لموقفهم من هذه النعم موقف الجاحد المنكر للمنعم بها.
قوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} هو تسبيح بحمد اللّه، وتنزيه له عن الشريك والولد، وتمجيد لجلاله وقدرته.. وهذا التسبيح والحمد، بلسان الوجود كله. وأنه إذا خرست ألسنة الضالين والمكذبين أن يسبحوا بحمد اللّه، وأن ينزهوه ويمجدوه، فإن الوجود كلّه لسان تسبيح، وتنزيه، وتمجيد للّه رب العالمين: {الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} فالمخلوقات كلها من أزواج، هى الذكر والأنثى.. كما في عالم الأحياء من حيوان، ونبات، وهى الشيء ومقابله، كما في عالم المعاني. كالصدق والكذب، والحق والباطل، والإيمان والكفر، والضلال والهدى.. وقد تحدثنا عن ذلك في غير موضع من قبل.
قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ} أي والليل آية لهم.. وقوله تعالى: {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ} جملة حاليّة من الليل.
وسلخ النهار من الليل، كشطه عنه، وإزالة القشرة النورانية التي تكسوه، كما يكسو الجلد الحيوان.. فإذا سلخت هذه القشرة النورانية عن كيان الكائنات، سادها الظلام.
وفى قوله تعالى: {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ} إشارة إلى حركة انسحاب النور، بحركة الأرض، ودورانها حول الشمس، فينسلخ النور شيئا فشيئا عن الأماكن التي تطلع عليها الشمس، وذلك كما يسلخ الجلد عن الحيوان، شيئا فشيئا.. لا دفعة واحدة.
وفى قوله تعالى: {فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ} إشارة إلى أن كل إنسان يكتسى من النور حلة، فإذا سلخت عنه صار جسما معتما مظلما، وأصبح قطعة من هذا الظلام، تجتمع قطعه بعضها إلى بعض، فإذا هى الليل.
قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي وآية لهم الشمس.. فهذه الشمس تسير في مدار محدود لها، وتتحرك في فلك لا تتعداه ولا تخرج عنه.. وذلك بتقدير {العزيز} ذى العزة والسلطان {العليم} الذي تجرى أحكامه ومقاديره بعلم نافذ إلى كل شىء، متمكن من كل كبيرة وصغيرة في هذا الوجود.
وجريان الشمس، هو حركتها في فلكها المرسوم لها. وهى تقطع دورة هذا الفلك في سنة كاملة، وفى سرعة مذهلة.
قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} أي أن القمر يأخذ كل ليلة منزلا من الأرض، على مدى شهر قمرى، ففى أوسط منازله يبدو قمرا منيرا، يغمر نور الشمس وجهه كله المواجه للأرض، المتوسطة بينه وبين الشمس، فيرى بدرا كاملا، ثم يرجع إلى الوراء منزلة كل ليلة، وذلك لبطء دورانه عن دوران الأرض، فيقلّ مع كل ليلة أو منزلة، الوجه المقابل منه للشمس، ويظل يتناقص شيئا فشيئا مدة نصف شهر قمرى، حتى يكون وجهه المواجه للأرض متوسطا بين الأرض والشمس، وهنا يكون وجهه المواجه للشمس مضيئا بضوئها، على حين يكون وجهه المواجه للأرض معتما، فإذا نزل منزلته في آخر ليلة لم ير من وجهه شىء، وسمى محاقا، لأن نوره الذي كان يبدو منه قد محق.. ثم يبدأ يولد من جديد.. فإذا كانت الليلة الأولى أو المنزلة الأولى لمولده، لم ير منه إلا قوس صغير، أشبه بقلامة الظّفر، ويسمى هلالا، غائرا في الشفق، فيختلط الضوء القليل الذي يبدو منه بحمرة الشفق، فيكون له تلك الصورة التي صورها له القرآن الكريم أدق تصوير وأروعه، حين شبهه بالعرجون القديم.
والعرجون، هو عذق النخلة، الذي يحمل النمر، ومنه تتدلى عناقيد النمر، ولونه أصفر، فإذا جفّ، وطال عليه الزمن تقوس شكله وصار لونه ضاربا إلى الحمرة الداكنة.. وهذه التحركات والتغيرات التي تظهر على وجه القمر ليلة بعد ليلة، جديرة بأن تستثير التفكير والتأمل، وأن تدعو العقل إلى النظر فيما وراء هذه المنظر الظاهر للقمر، إلى وضعه في المجموعة الشمسية، وإلى صلته بالأرض، وإلى إمكان الوصول إليه، ولو على سبيل الفرض أولا، ثم اتخاذ الأسباب التي يمكن تحقيق هذا الفرض بها.. إن الملاحظة للشىء، هى الطريق الطبيعي للكشف عن حقيقته.. وليس مثل هذا العرض الذي عرضه القرآن الكريم للقمر داعية إلى الملاحظة والتأمل، لو أن ذلك وجد همما متطلعة، وعزائم جادة..!!
قوله تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي أن من قدرة اللّه سبحانه وتعالى، ومن إحكام علمه، أن أجرى هذه العوالم بعلمه، وسخّرها بقدرته، وأقامها على نظام محكم، وأجراها في مجار لا تتعداها.. فلا يصطدم بعضها ببعض، ولا يأخذ بعضها من بعض وضعا غير الذي أقامه اللّه فيه.. فلا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر. فهى مع سرعتها المذهلة، التي تبلغ ألوف المرّات بالنسبة لسرعة القمر فإنها لا تدركه.
فهى لها فلك تدور فيه، كما للقمر فلكه الذي يدور فيه.
وكما أن الشمس لا تدرك القمر، كذلك الليل لا يسبق النهار، إنهما يجريان بحيث يتبع أحدهما الآخر، دون أن يسبقه.. {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}،.
وجعل الليل وراء النهار، لأن النهار أسبق من الليل هى دورة الأرض حول نفسها من الغرب إلى الشرق.. فالأرض في دورانها حول نفسها من الغرب إلى الشرق، إنما تجرى نحو النور، ومن وراء النور الظلام.. فالنور دائما أمام الظلام، وهما معا في حركة وجريان. فالآية الكريمة تشير إلى حركة الأرض وإلى دورانها حول نفسها من الغرب إلى الشرق.
واستعمل مع هذه العوالم ضمير العقلاء- إشارة إلى هذا النظام المحكم الممسك بها، والذي يقيمها على طريق مستقيم، كما يقيم العقل السليم صاحبه على طريق مستقيم.
قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}.
أي ومن آياتنا التي نعرضها على هؤلاء المشركين، والتي تحمل إليهم الدلائل على قدرتنا، وإحساننا- أننا {حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}.
والفلك. يطلق على الواحد والجمع من السفن، قال تعالى: {فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا}.
فهى هنا سفينة واحدة، وقال تعالى: {حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ.} وهى هنا جمع.. والمراد بها في الآية الجمع كذلك، لأنه وصف بمذكر، وهوقوله تعالى: {الْمَشْحُونِ}، وعاد عليها الضمير كذلك مذكرا في قوله تعالى: {وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ}.
فعومل بهذا معاملة الجنس.. والمشحون: الممتلئ.
والمراد بالذرية: الأبناء، وهى، تجمع على ذرارى، وذريات، وأصلها من الذرء، وهو إظهار الشيء، يقال ذرأ اللّه الخلق، أي أوجد أشخاصهم، والذرأة بياض الشعر.. وفى الإشارة إلى حمل ذرياتهم دون حمل آبائهم إلفات إلى ما تحمل الفلك لهم من فلذات أكباد، ونفائس أموال وأمتعة، فتحفظها، وتصل بها إلى غايتها.. وفى هذا ما يريهم فضل اللّه عليهم، وإحسانه بهم، فقد لا يرى الإنسان فضل النعمة، ولا يقدرها قدرها إذا هى لبسته هو، فإذا رآها في غيره عرف لها قدرها، وذكر فضلها.
قوله تعالى: {وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ} معطوف على قوله تعالى: {حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ} أي وآية لهم أنا خلقنا لهم من مثل هذا الفلك، مراكب يركبونها في البر، وهى الإبل التي تسمى سفائن الصحراء، والخيل، والبغال والحمير، وغيرها مما يركب، ويحمل عليه.
قوله تعالى: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ..}.
أي أنه إذا كان من قدرة اللّه أن سخّر الفلك لتجرى في البحر بأمره، فلا يغرق راكبوهم فإن من قدرته سبحانه أن يغرق هذه السفن، بمن فيها من أولاد وأموال، فلا يجدون من يسمع لهم صراخا، أو يستجيب لهم، أو يقدر على إنقاذهم إن سمع واستجاب.. فهم هلكى لا محالة، إلّا أن تتداركهم رحمة اللّه، وإلا أن تكون لهم بقية من أجل.
فقوله تعالى: {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ} استثناء من قوله تعالى: {فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} أي لا ينقذهم منقذ أبدا إلا رحمة اللّه، وما لهم من أجل لم ينته بعد.

1 | 2